تُظهر الخبرة أن قياس العائد في هذا المجال ليس دائمًا مباشرًا أو رقميًا، لكنه يظل ممكنًا من خلال مؤشرات كمية ونوعية تعكس مدى الجاهزية التشغيلية وتقليل الخسائر وتحسين الثقة المؤسسية. وهنا تلعب استشارات استمرارية الأعمال دورًا حاسمًا في بناء منهجية دقيقة لقياس هذا العائد وربطه بالأهداف المالية والاستراتيجية للمؤسسة.
أولًا: لماذا يُعتبر قياس العائد على برامج استمرارية الأعمال تحديًا؟
على عكس الاستثمارات الأخرى، لا تهدف برامج استمرارية الأعمال إلى تحقيق أرباح فورية، بل إلى منع الخسائر المحتملة الناتجة عن التوقفات التشغيلية. وبالتالي، فإن قياس العائد يتطلب مقاربة مختلفة، تُوازن بين الوقاية والتأثير المالي غير المباشر.
التحديات الأساسية تشمل:
- صعوبة تحديد قيمة الخسائر المحتملة: كم كانت الشركة ستخسر لو لم يكن لديها خطة استمرارية فعالة؟
- تعدد العوامل المؤثرة: مثل مرونة البنية التحتية التقنية، سرعة الاستجابة للأزمات، أو فعالية فرق الطوارئ.
- الطابع غير الملموس للعائد: في كثير من الأحيان، يكون العائد متمثلًا في الحفاظ على السمعة أو ثقة العملاء، وليس أرباحًا مالية مباشرة.
من هنا، تصبح الحاجة إلى الاستعانة بجهات متخصصة في استشارات استمرارية الأعمال أمرًا ضروريًا لوضع نموذج متكامل لقياس العائد على الاستثمار بطريقة واقعية ومنهجية.
ثانيًا: تعريف العائد على الاستثمار في استمرارية الأعمال (BC ROI)
العائد على الاستثمار في استمرارية الأعمال (Business Continuity ROI) يُقاس بمقارنة قيمة الفوائد المتحققة من تنفيذ برنامج الاستمرارية مع تكاليف الاستثمار في تطويره وصيانته.
بمعادلة مبسطة:
العائد على الاستثمار = (الفوائد المتحققة – التكاليف الكلية) ÷ التكاليف الكلية × 100%
لكن الفوائد في هذا السياق تتعدى الجوانب المالية لتشمل جوانب استراتيجية مثل تعزيز المرونة، تحسين إدارة المخاطر، وزيادة ثقة أصحاب المصلحة.
ثالثًا: مؤشرات قياس العائد في برامج استمرارية الأعمال
1. تقليل التوقفات التشغيلية (Downtime Reduction)
من أهم المؤشرات الكمية التي يمكن رصدها.
كل دقيقة توقف تعني خسائر مالية مباشرة في الإيرادات والإنتاجية.
عندما تُظهر الخطة أنها خفّضت التوقف من أيام إلى ساعات، فهذا يمثل عائدًا ملموسًا يمكن حسابه ماليًا.
2. تحسين سرعة الاستجابة (Response and Recovery Time)
كلما كانت المؤسسة قادرة على استعادة عملياتها بسرعة بعد الأزمة، زادت القيمة المحققة من برنامج الاستمرارية.
هذا المؤشر يُعرف عادة باسم:
- RTO (Recovery Time Objective)
- RPO (Recovery Point Objective)
التحسن في هذه المؤشرات يعني تقليل الخسائر التشغيلية، وهو عنصر أساسي في حساب العائد.
3. حماية السمعة المؤسسية (Reputation Protection)
الأزمات غالبًا ما تُقاس بتأثيرها الإعلامي بقدر ما تُقاس بتأثيرها المالي.
وجود خطة استمرارية فعّالة يمنع فقدان ثقة العملاء والشركاء.
يمكن تقدير هذه القيمة عبر مقاييس مثل:
- رضا العملاء بعد الأزمة.
- الحفاظ على عقود الشراكة القائمة.
- انخفاض الشكاوى أو التسريبات الإعلامية السلبية.
4. الامتثال والالتزام التنظيمي (Regulatory Compliance)
في العديد من القطاعات — خاصة في السعودية والشرق الأوسط — أصبحت استمرارية الأعمال مطلبًا تنظيمياً من الجهات الرقابية.
بالتالي، الاستثمار في هذا المجال يُجنب الشركة الغرامات والعقوبات، وهو عائد مالي مباشر يُحسب ضمن ROI.
5. تعزيز ثقافة المرونة المؤسسية (Resilience Culture)
القيمة طويلة المدى تأتي من ترسيخ ثقافة الاستجابة والتعلم المستمر.
كلما كانت فرق العمل مدرّبة وواعية بمسؤولياتها أثناء الأزمات، زادت كفاءة المؤسسة في مواجهة أي تهديد مستقبلي.
رابعًا: منهجية حساب العائد على الاستثمار في استمرارية الأعمال
المرحلة 1: تحديد التكلفة الكلية للبرنامج
تشمل تكاليف:
- إعداد خطة استمرارية الأعمال.
- تدريب الموظفين وإجراء التجارب الميدانية.
- تحديث الأنظمة التقنية وخطط النسخ الاحتياطي.
- خدمات الجهات المتخصصة في استشارات استمرارية الأعمال.
المرحلة 2: تقدير الفوائد المتحققة
- تقليل الخسائر التشغيلية (بناءً على متوسط الخسائر لكل ساعة توقف).
- تجنب الغرامات التنظيمية.
- الحفاظ على الإيرادات من العملاء المستمرين.
- تحسين صورة العلامة التجارية بعد الأزمات.
المرحلة 3: استخدام أدوات تحليل العائد النوعي والكمّي
- تحليل الحساسية (Sensitivity Analysis): لقياس مدى تأثير كل عنصر من عناصر البرنامج على الأداء المالي.
- تحليل التكلفة–المنفعة (Cost-Benefit Analysis): لتقدير العلاقة بين النفقات والعائد.
- النماذج التنبؤية: لتقدير الخسائر المستقبلية المحتملة دون تطبيق البرنامج ومقارنتها بالنتائج الفعلية.
خامسًا: القيمة غير المباشرة لبرامج استمرارية الأعمال
حتى في الحالات التي يصعب فيها حساب العائد المالي بدقة، هناك عوائد استراتيجية يصعب تجاهلها:
- تحسين الثقة مع المستثمرين والمساهمين.
- تعزيز سمعة المؤسسة كمكان عمل مستقر وموثوق.
- تحسين استمرارية سلسلة التوريد عبر الشفافية والتخطيط المسبق.
- رفع جاهزية المؤسسة للنمو والتوسع حتى في أوقات التقلبات الاقتصادية.
من خلال دمج هذه القيم في نموذج القياس، تقدم استشارات استمرارية الأعمال رؤية شاملة للعائد الحقيقي، لا المالي فقط.
سادسًا: دور استشارات استمرارية الأعمال في قياس وتحسين العائد
الشركات التي تسعى إلى تحقيق أقصى استفادة من برامجها تحتاج إلى خبراء قادرين على الدمج بين التحليل المالي وإدارة المخاطر التشغيلية.
وهنا يأتي دور مزودي استشارات استمرارية الأعمال الذين يقدمون حلولًا متكاملة تشمل:
- تطوير مؤشرات أداء رئيسية (KPIs) مخصصة لكل مؤسسة.
- تصميم لوحات قياس (Dashboards) تعرض بشكل لحظي أثر البرنامج على الكفاءة التشغيلية.
- تحديث نماذج المخاطر لتتوافق مع المتغيرات السوقية والتقنية.
- تحليل التكلفة مقابل العائد بناءً على البيانات التاريخية وتجارب الأزمات السابقة.
بفضل هذه الخدمات، لا تقتصر الفائدة على الوقاية فقط، بل تمتد إلى تحقيق ميزة تنافسية مستدامة من خلال إدارة المخاطر بذكاء واستباقية.
سابعًا: حالات تطبيقية (Case Examples)
المثال الأول: مؤسسة مالية سعودية
قامت بتطوير خطة استمرارية متكاملة تضمنت حلول نسخ احتياطي واستعادة سريعة للبيانات.
خلال أحد الأعطال المفاجئة، استطاعت المؤسسة العودة إلى العمل خلال ساعتين بدلًا من يومٍ كامل، مما وفّر نحو 2 مليون ريال من الخسائر المحتملة.
بعد تطبيق مؤشرات ROI، تبين أن البرنامج حقق عائدًا بنسبة 220% خلال عامين.
المثال الثاني: شركة لوجستية إقليمية
بعد استشارة أحد بيوت استشارات استمرارية الأعمال، طبّقت الشركة آلية لإدارة الأزمات في سلاسل التوريد.
النتيجة: انخفاض بنسبة 30% في تأخير الشحنات أثناء الجائحة، وتحسن في تقييم العملاء بنسبة 15%.
ثامنًا: ربط العائد بالأهداف الاستراتيجية للمؤسسة
من الخطأ النظر إلى برامج الاستمرارية بمعزل عن الرؤية الشاملة للمؤسسة.
ينبغي ربط قياس العائد بأهداف مثل:
- زيادة رضا العملاء.
- الحفاظ على الحصة السوقية.
- تحسين كفاءة التكلفة التشغيلية.
- دعم التحول الرقمي الآمن.
عندما تُدرج استمرارية الأعمال ضمن إطار حوكمة المخاطر المؤسسية (ERM)، يصبح قياس العائد جزءًا طبيعيًا من دورة التخطيط المالي والإداري.
تاسعًا: مستقبل قياس العائد في ظل التحول الرقمي
مع اعتماد الذكاء الاصطناعي والتحليلات المتقدمة، أصبح من الممكن استخدام أدوات التنبؤ بالخسائر المحتملة وتحليل السيناريوهات بشكل أكثر دقة.
البيانات الضخمة (Big Data) تمكن المؤسسات من تقدير القيمة المالية للأزمات المحتملة بدقة أكبر، ما يجعل حساب العائد أكثر شفافية وواقعية.
وبالتالي، فإن المؤسسات التي تتعاون مع مزودي استشارات استمرارية الأعمال المتخصصين في تحليل البيانات ستكون أكثر قدرة على تبرير استثماراتها وتحقيق قيمة استراتيجية ملموسة.
قياس العائد على الاستثمار في برامج استمرارية الأعمال لم يعد مجرد تمرينٍ مالي، بل أصبح أداة لإثبات القيمة المؤسسية والتميز التشغيلي.
فعندما يُنظر إلى استمرارية الأعمال كاستثمار استراتيجي وليس كتكلفة إضافية، يتحول البرنامج إلى عنصر أساسي في تحقيق المرونة والنمو.
وفي النهاية، تبرز استشارات استمرارية الأعمال كأداة تمكينية، تساعد المؤسسات على بناء نماذج قياس دقيقة، وتطوير استراتيجيات متكاملة تضمن أن يكون كل ريال يُستثمر في الاستمرارية مساهمًا فعليًا في استدامة النجاح.
المراجع:
هل يمكن للذكاء الاصطناعي والأتمتة إحداث ثورة في استمرارية الأعمال؟
كيف يمكن مواءمة خطط الاستمرارية مع الأهداف الاستراتيجية طويلة المدى؟
ما العلاقة بين الأمن السيبراني واستمرارية الأعمال؟